Foreign Minister Oxford speech

وزير الخارجية يدعو إلى تسريع إقامة الدولة الفلسطينية

15 فبراير 2024

ألقى معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية محاضرة في مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية بالمملكة المتحدة بعنوان “التحدث مع أي شخص من أجل مصلحة الجميع – الدبلوماسية في عالم متعدد الأقطاب”.

نص المحاضرة كاملاً كما يلي:

مساء الخير،

أود بادئ ذي بدء أن أتقدم بالشكر الجزيل لمركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية لإعطائي هذه الفرصة للتحدث إليكم اليوم.

لقد كنت أتطلع إلى جعل هذا اللقاء مناسبة لتقديم بعض الانطباعات الشخصية، بعيدا بعض الشيء عن العمل اليومي وبما يسمح بالنظر نحو الصورة الأكبر وربما قليل من التاريخ.

أتمنى أن أقدم بعض الأفكار المدروسة بعناية؛ أفكار أعرف أن جمهور أوكسفورد يتوقع أن يسمعها من ضيوفه. وآمل بالتأكيد ألا أخذلهم. لكن، إذا حدث وخذلتكم، فسيكون بالتأكيد بدون قصد، فأرجو المعذرة.

لكن الأحداث استحوذت على تفكيري.

 ولا يمكنني بأي حال من الأحوال أن أتجاهل التحدث إليكم عن التطورات الجارية في فلسطين، وبخاصة منذ عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي، والغزو الإسرائيلي لغزة الذي تبع ذلك والمستمر منذ أربعة أشهر.

ولا يسعني إلا أن أتوقف لحظة، بقلب مثقل، لأتذكر وأصلي من أجل جميع الأرواح البريئة التي سقطت وما زالت تسقط بشكل عشوائي ويائس في فلسطين.

ومع ذلك، سأحاول أن أركز على الصورة الكبيرة، لكن من منظور مختلف قليلا، ذلك لأن هذه الأزمة جعلت الصورة الكبيرة جزءا من حياتنا اليومية.

سأحاول التحدث عن الأزمة في غزة مع الإشارة إلى تاريخها، ونظرة إلى المستقبل الذي نتمناه.

ولا أريد أن يكون حديثي عن التاريخ لأغراض أكاديمية. لكنني أعتقد أن الإشارة إلى بعض الحقائق التاريخية قد تساعدنا في إحراز بعض التقدم نحو الحل.

إنني أعتقد حقا أنه يمكن بل ويجب التوصل إلى حل للقضية الفلسطينية. لكن ذلك يحتاج إلى إحداث تغيير في تفكيرنا. تغيير طال انتظاره.

اسمحوا لي بداية أن أذكر ما أعتقد أنه جوهر المشكلة.

يبدو الأمر كما لو أن جهود التعامل مع الأزمة الحالية مازالت أسيرة الماضي.

لكن يبدو أننا لا نتعلم من الماضي ونفشل في فهم الحاضر.

اسمحوا لي أن أشرح لكم ما أقصد.

هناك ميل إلى التفكير، بل والتصرف كما لو أن العالم يمكن تقسيمه بدقة إلى فسطاطين. يوجد أصدقاء وأعداء. ويوجد خير وشر. محور شر من ناحية وحراس الازدهار من ناحية أخرى.

لماذا نفعل هذا؟ لماذا نريد أن نتصور العالم بالأبيض والأسود؟ يبدو الأمر كما لو أننا نحاول التقاط المحيط في كوب للشاي.

أعتقد أن السبب في ذلك هو الإخفاق بتقبل حقيقة أن العالم أصبح عالما متعدد الأقطاب.

لقد تحرك قطار التاريخ على نحو أسرع منا، ونحن بحاجة إلى اللحاق بالتاريخ.

فعلى مدى أكثر من ثلاثين عاما منذ سقوط سور برلين، مازال الكثيرون منا يعيشون بعقلية الحرب الباردة القائمة على القطبية الثنائية والألعاب الصفرية، وعدم التواصل.

كثيرون لا يتحدثون إلا إلى أصدقائهم، ويجعلون من رفض التحدث إلى الآخرين الذين يعتبرونهم أعداء لهم أحد المبادئ التي يؤمنون بها.

وهذا عائق خطير، أو بالأحرى إعاقة ذاتية.

لذلك، وفي مواجهة الكارثة الإنسانية المروعة الماثلة أمامنا في غزة، هناك من يرفض عمل الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفتح الطريق إلى السلام.

لا يمكن القضاء على حركة حماس. لذلك، إذا كان للسلام أن يتحقق يوما ما، فسوف ينبغي على صانعي السلام أن يجدوا طريقة للتحدث إلي مسؤولي الحركة والاستماع إليهم أيضا.

وهذا سوف يتطلب حدوث تحول في التفكير، وتطوير أشكال من الدبلوماسية العملية التي تتناسب مع عالم متعدد الأقطاب. عالم، يتعين علينا جميعا أن نتعلم فيه أهمية التحدث مع الجميع من أجل مصلحة الجميع.

وسينطوي هذا على التخلص مما كان يعتبره كثيرون عادة العمر.

ولا يوجد مكان يصدق فيه هذا القول أكثر من المنطقة التي أنتمي إليها من العالم، حيث أفسدت لعنة الطائفية الحياة.

ففي الرؤية الطائفية للمنطقة، يفترض أن تقوم المجتمعات والثقافات على انقسامات حادة.

انقسامات بين السنة والشيعة.

وبين المسلمين واليهود.

وبين المسلمين والمسيحيين.

وفي هذه الرؤية، تتشكل السياسات وتقوم على هذه الهويات.

وعندما يمتزج هذا المنطق الطائفي بمنطق الحرب الباردة، يكون من السهل حدوث المزيد من الانقسامات.

بين المعتدلين والمتشددين.

وبين المدافعين عن الحرية وأعدائها، الذين ينبغي احتوائهم.

وبالتالي، ينظر كثيرون، في هذه المنطقة وفي غيرها، إلى هذه الطائفية الأساسية كحقيقة للحياة. وتبدو بالنسبة لهم طبيعية وبديهية، كإحدى سمات الصورة العامة.

يمكنكم سماع هذا التوجه دائما في اللغة التي غالبا ما تستخدم لوصف سياسات المنطقة.

تسمعون الكثير عن التوترات الطائفية القديمة قدم الزمن، والخصومات التاريخية، والضغائن القديمة والعداوات الدائمة.

إن استخدام هذه اللغة يفترض أن شعوب المنطقة يتصرفون أساسا بسبب هوياتهم. وهم ببساطة يتبعون النصوص الطائفية، وليسوا قادرين على إصدار هذا النوع من الأحكام المستقلة والمتطورة التي اعتاد الغرب الديمقراطي على إصدارها.

وهذا الافتراض ينطوي على قدر عميق من التعالي. وهو أيضا خطأ واقعي. وسأعود إلى هذه النقطة مرة أخرى بعد قليل.

لكن، وعلى الرغم من كونها سياسة متعالية وخاطئة، إلا أنها مازالت تبنى على هذا المنطق.

ففي العراق، على سبيل المثال، بعد غزو اتضح أنه كان مبنيا على أحكام خاطئة، كما كان يبدو للبعض منا في ذلك الوقت، تم فرض عملية إعادة بناء الدولة على أسس طائفية، في تناقض مع طبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية المعقدة التي كانت قائمة.

وكان هذا خطأ تاريخيا من جانب قوى الاحتلال. لكنه كان خطأ، يؤسفني القول، ساهم في ارتكابه بعض القادة السياسيين في البلاد ومؤيديهم الخارجيين.

لك أن تصنع الهياكل والمؤسسات التي تستهدف استيعاب المصالح الطائفية التي تعتقد أنها منطق الحياة الاجتماعية والثقافية، وسينتهي بك الأمر في نهاية المطاف إلى ضمان أن ذلك المنطق الذي كان خياليا في وقت ما أصبح حقيقيا.

هذه هي السمة السامة للمنطق الطائفي. فبمجرد ما يتم تطبيقه، فإنه يعيد إنتاج نفسه تلقائيا، كما لو كان شيئا طبيعيا.

لكنه ليس طبيعيا. إنه تاريخي.

ربما يكون التفكير الطائفي قد هيمن على الجزء الأكبر من تاريخ المائة سنة الماضية في المنطقة. لكن الأمر لم يكن كذلك على الدوام.

لقد جاءت اللحظة الحاسمة لظهور هذا التفكير كمنطق سائد في المنطقة في نفس الوقت التي كانت الحرب الباردة قد بدأت في تشكيل العلاقات الدولية.

وتضمنت تلك اللحظة استيطان اليهود في فلسطين، من ذوي الأصل الأوروبي، ثم تأسيسهم لدولة إسرائيل.

وأود هنا أن أكون حذرا ودقيقا جدا فيما أقوله.

لم يكن تأسيس دولة إسرائيل بحد ذاته هو المشكلة.

بل أن المشكلة تمثلت في أن تأسيس هذه الدولة غرس في المشهد السياسي العربي الحديث بذرة جديدة تقوم وتؤكد على أن الدين هو الأساس للهوية الوطنية.

ولكي نفهم مغزى هذه اللحظة الحاسمة وأهميتها، ينبغي علينا العودة إلى الوراء لفترة أطول بقليل، أي إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

خلال هذه الفترة وفي الأراضي الشرقية للدولة العثمانية- ما يعرف الآن بفلسطين وإسرائيل وسوريا ولبنان والعراق- تَمثلت إحدى نتائج النهضة العربية في تطور ثقافة عربية سمّاها المؤرخ أسامة المقدسي ثقافة “إيكومنيكلية” أو مسكونية، أي ثقافة متعايشة مع مختلف الطوائف.

فالمواطن العربي يمكن أن يكون مسيحيا، أو مسلما أو يهوديا، لكن أيا من هذه الانتماءات الدينية لم يكن يمثل النقطة الرئيسية لتحديد هوية المرء على الأقل فيما يتعلق بمشاركته في الحياة العامة والسياسية.

كان الوضع العائلي للمرء، في الإمبراطورية العثمانية، ثم في الدول التي ظهرت بعد انهيار تلك الإمبراطورية، محكوما بقوانين دينية منفصلة، لكن الحياة العامة أو الحياة السياسية كانت بمثابة المساحة التي لم يكن مطلوبا فيها من الناس أن يخوضوا ذلك المعترك على أساس انتماءاتهم الدينية.

في الحقيقة أنا لا أقول إن هذا كان عالما مثاليا من الوئام والمساواة والتعايش بين المجتمعات. فهذا العالم لم يكن خاليا من حالات التوتر أو الصراع، لكن تلك الحالات كانت ناتجة عن قضايا اقتصادية أو اجتماعية وليس بسبب هويات دينية.

لكن الصهاينة، جلبوا بوصولهم للمنطقة مشروعا قوميا أوروبيا، تم تصميمه في أوروبا ليتم تنفيذه في فلسطين. لم يكن لهذا المشروع جذور في المنطقة ولم يضع في الاعتبار الطابع الايكومنيكلي أو المسكوني لثقافتها السياسية والفكرية.

لم يكن مصدر المشكلة هو حقيقة أن هؤلاء القادمين الجدد كانوا يهودا. فقد كان اليهود، قبل كل شيء، جزءا من المجتمع المحلي والثقافة في فلسطين والشرق (بلاد الشام) والعراق.

وكان هناك ترحيب بهؤلاء القادمين الأوائل على افتراض أنهم، شأنهم شأن اليهود الذين كانوا موجودين هناك بالفعل، سيجدون مكانا لهم في النسيج الاجتماعي.

وكانت المشكلة أنه سرعان ما بات واضحا أن بعضهم جاء بمشروع سياسي يتعارض مع ذلك المجتمع وثقافته ولا يتوافق مع نسيجه الاجتماعي.

وأدى استعمار فلسطين إلى تعطيل الثقافة المسكونية القائمة والحساسة لأنه أدخل في السياسة، وبخاصة في السياسة الوطنية، هذا التركيز الجديد على الهوية الدينية.

فليست الصهيونية إلا حركة تصر على حق اليهود في العيش في دولة يهودية.

وهذا يعني، في نهاية المطاف، أنه بعد عام 1948 كان من الصعب على أي شخص أن يُعرف نفسه على أنه يهودي عربي. فقد كان العرب، بالنسبة للصهاينة، يمثلون العقبة الكأداء أمام تحقيق هدفهم السياسي ألا وهو إقامة دولتهم اليهودية.

إذن، هنا تكمن أصول الطائفية الإقليمية التي نشهدها في عالم اليوم، حيث أن كونك يهوديا أو عربيا (أو بالأحرى مسلما) يعني أنك تختلف عن الآخر أو تكون ضده.

إن مأساة هذه اللحظة في تاريخنا المشترك هي أن ما بدأته الصهيونية الاستعمارية، استمر واستدام في جميع أنحاء العالم العربي، حيث أن بعض القادة العرب تعلموا تلميع صورتهم السياسية من خلال إثبات مدى صمودهم في عدائهم لإسرائيل، تماما مثلما روج الصهاينة للخوف من الإسلام أو الإسلاموفوبيا.

وازداد هذا الاستقطاب الثنائي حدة لأن العديد من القادة العرب الذين شددوا بقوة على عدائهم تجاه إسرائيل كانوا أيضا هم الذين أدخلوا بلادهم في تحالفات سياسية مع الاتحاد السوفيتي.

وهكذا، تضاعف سم الطائفية الدينية بسبب حالة المواجهة التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة.

وبالتدريج، أخذ هذا الاستقطاب طابعا دينيا لأن القادة السياسيين في جميع أنحاء المنطقة أدركوا أن بإمكانهم تعزيز مواقفهم السياسية من خلال التأكيد على هويتهم الإسلامية.

وسنرى أيضا بروز جماعات من اللاعبين من غير الدول الذين استخدموا هويتهم الإسلامية كسلاح لشن حرب على إسرائيل.

بعض هذه الجماعات أو المنظمات- وليس جميعها بأي حال من الأحوال- اتخذت مواقف وقامت بأفعال هي بلا شك معادية للسامية، بل ازدهرت على ظهر هذا السم.

على سبيل المثال، هناك منظمات مثل داعش، ترى أن عالما قائما على أساس هذا المنطق الطائفي يناسب تماما نسختهم المشوهة من الإسلام. وينطبق الشيء نفسه على بعض المتطرفين الصهاينة بنسختهم المشوهة من اليهودية.

وهذا هو ما يعطي الانطباع للعديد من الناس بأن أزمة اليوم ناتجة عن عداوات قديمة بين المجتمعات الدينية.

لكن واقع الأمر هو أن عداوات اليوم ربما يكون لها في الوقت الحالي بعدا طائفيا قويا، لكن السبب في ذلك هو ما حدث في منتصف القرن الماضي.

والأكثر من ذلك، هو أننا عندما ننظر عن كثب إلى واقع اليوم، يتضح لنا أن البعد الطائفي ليس بالقوة التي يتوقعها الكثير من الناس.

ذلك لأنه اتضح أنه حتى في يومنا هذا، في عالم يُفترض أنه مليء بالصراعات والعداوات الطائفية، يبدو أن الواقع أكثر تعقيدا.

ففي لبنان اليوم، على سبيل المثال، نجد أن حزب الله هو الذي حشد قواته وقام بعمل عسكري ضد إسرائيل. وقيل لنا بأن حزب الله هو حزب شيعي وأنه يعمل كوكيل لإيران. ويُفترض أن هذا يفسر ما يحدث حاليا.

لكن هذا الافتراض لا يصل إلى أي تفسير حقيقي. ففي الواقع، تحظى مواقف حزب الله بدعم شعبي وسياسي كبير داخل لبنان. ويأتي هذا الدعم من مختلف الأطياف الدينية، التي تشمل ليس السنة فحسب وإنما المسيحيين أيضا. وهذا الدعم يقوم على أساس خيار سياسي وليس على أساس طائفي.

وينطبق نفس الشيء على الدعم الذي يتمتع به الفلسطينيون في جميع أنحاء المنطقة: وهذا الدعم يأتي من أناس من جميع الطوائف ومن غير الطوائف، وهو مدفوع بالتضامن السياسي والتعاطف الإنساني والشعور بالظلم التاريخي.

كما يأتي الدعم للفلسطينيين من الشيعة والسنة والإباضيين والمسيحيين واليهود ومن العلمانيين أيضا.

ويحدث نفس الشيء في باريس ولندن ونيويورك، ويبدو أنه يحدث هنا في أوكسفورد أيضا.

لقد تعززت هذه الرؤى السياسية بفعل الظروف الاقتصادية في أماكن مثل فلسطين نفسها ولبنان واليمن. وساعد ازدياد معدلات الفقر وانهيار البنية الأساسية في هذه الأماكن الثلاثة على بناء ما يسمى وحدة المضطهدين.

وأحيانا يتم التعبير عن هذه الرؤى بمصطلحات إسلامية. فالعدالة الاقتصادية والاجتماعية، قبل هذا وذاك، لها أهميتها بالنسبة للمسلمين.

لكن هذا لا يجعلهم طائفيين.

من السهل عدم مواجهة هذه الحقيقة وعدم القيام بأي عمل لحل المشاكل الرئيسية. ومن السهل أيضا إخفائها من خلال الإصرار على النظر إلى المنطقة بمنظور طائفي، بحيث يتم تفسير المعارضة لإسرائيل على أنها كتلة شيعية تديرها إيران، وينبغي على الولايات المتحدة وغيرها من أصدقاء إسرائيل الانخراط في حرب مقدسة مزعومة لمواجهتها.

لا شك أن شعوب المنطقة لديها من العقول ما يمكنها من إصدار أحكاما سياسية واعية بدلا من مجرد التمسك بالانتماء الطائفي بلا وعي. ومن المسيء جدا الإشارة إلى خلاف ذلك. إن هذا التشويه للمنظور السياسي المشترك على نطاق واسع، هو ما أسميه بالافتراء الطائفي.

أنا لا أقول إن الأشخاص الذين تقول وسائل الإعلام الغربية أنهم أشرار هم في الواقع أخيار. فهذا هو التفكير المزدوج نفسه. ما أقوله هو أن الشرير والجيد ليسا تقسيمات مفيدة عند محاولة فهم موقف معقد وديناميكي والتصرف بشكل مسؤول في إطار هذا الموقف.

هناك الكثير من الأطراف الفاعلة ممن لديهم مصالح مختلفة ووجهات نظر مختلفة. ولا يمكن معرفة مصالحهم ووجهات نظرهم الحقيقية إلا من خلال الحديث معهم والاستماع إليهم، ومن ثم البدء في معرفة كيفية التعامل معهم بعمق.

وينبغي أن يكون هذا هو الأساس الذي يمكن من خلاله وقف الكارثة في فلسطين. وينبغي أيضا أن يكون أساس الدبلوماسية في عالم متعدد الأقطاب.

ليس الأمر كما لو أننا ليس لدينا أمثلة إيجابية يمكننا الاستفادة منها.

يمكننا أن نذكر أيرلندا الشمالية كمثال. فقد أصرت الحكومة البريطانية لعقود طويلة على ألا تتحدث إلى الشين فين لأنها كانت الجناح السياسي لمنظمة إرهابية تسمى بالجيش الجمهوري الأيرلندي.

لكن، على الرغم من ذلك، تم فتح قناة للاتصال معها. واتفق الطرفان على الحفاظ على سرية تلك القناة لأنهما كانا يخشيان بأنه إذا تم الإعلان عنها، فإنهما قد يواجهان اتهامات مريرة من دوائرهما السياسية.

لكن تلك القنوات التي فتحتها حكومة جون ميجور هي التي وفرت الظروف التي تم فيها الاتفاق على وقف الأعمال العدائية والتي ساعدت على المضي قدما في المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق الجمعة العظيمة.

واليوم، أصبحت الشين فين، ذلك الحزب الذي كان الحوار معه مستحيلا من الناحية السياسية، وغير مقبول من الناحية الأخلاقية، حزبا ديمقراطيا رئيسيا يرغب الكثير من السكان الأيرلنديين المحبين للسلام والمناهضين للإرهاب في الشمال والجنوب التصويت لصالحه، وهو الآن على وشك قيادة الحكومة في كل من دبلن وبلفاست.

أحيانا تكون بحاجة إلى التظاهر بأنك لا تتحدث إلى أشخاص معينين، لكنك في الحقيقة تتواصل معهم. وأود أن أقول إن مثل هذه المحادثات تحدث في الوقت الحالي. وأن وراء التهديد، هناك بعض الحوار. لكن بالنسبة للأزمة الحالية، لا أعتقد أن هناك طرف يتظاهر بأنه لا يتحدث مع الطرف الآخر.

وكما هو الحال بالنسبة للمثال الآيرلندي، هناك مخاطر في التلميح إلى مثل هذه الاتصالات، لأن الرأي العام الداخلي في العديد من الأماكن مستقطب بشكل خطير. وقد شجع على هذا الاستقطاب بعض القيادات السياسية والتغطية الإعلامية السطحية وغير المطلعة (أو المنحازة بعمد) وفوق كل شيء، التكرار المستمر للافتراءات الطائفية.

وأنا أفهم لماذا يصعب على الإدارة في واشنطن تغيير موقفها بشأن هذا الأمر، أو حتى بشأن المقترحات الأقل إثارة للجدل مثل وقف إطلاق النار.

فحتى العمانيون المعروفون بهدوئهم يتعرضون للانتقاد من بعض الأصدقاء لأنهم يقولون إننا بحاجة إلى التحدث إلى حركة حماس بدلا من القضاء عليها.

وبالنسبة لأولئك المتعصبين بموقفهم الرافض، أود ببساطة أن اقتبس من ميثاق حركة حماس الصادر في عام 2017 والذي جاء فيه: “إن حماس تعتبر أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة”.

وهذه بالتأكيد نقطة معقولة لبداية المفاوضات.

إذن سأختتم حديثي بذكر مجموعة من المقترحات البراجماتية للعمل الدولي.

العمل الدولي الذي يعترف بأننا نعيش في عالم متعدد الأقطاب.

العمل الدولي الذي يرفض المنطق الطائفي والاستقطاب، والألعاب الصفرية وعدم التواصل.

أولا، نحن بحاجة إلى عقد مؤتمر دولي عاجل يتولى مهمة الاتفاق على الترتيبات لإقامة دولة فلسطينية ووضع الآليات لتنفيذها.

لقد أجّل العالم مسألة الدولة الفلسطينية لفترة طويلة جدا.

كما أن الكثير ممن يعربون اليوم عن تأييدهم لحل الدولتين يعتقدون أن هذا الحل مازال هدفا سيتم تحقيقه في المستقبل البعيد. كما لو أن الحقائق الأساسية سوف تتغير بطريقة سحرية لتجعل ما هو مستحيل الآن ممكنا في ذلك المستقبل البعيد.

إذن، لا مزيد من التأخير. ينبغي علينا أن نتعامل مع الواقع الذي نعيشه. وهذا الواقع يشمل الجميع بمن فيهم حماس. وسوف يتعين على المؤتمر الدولي أن يضم حماس أيضا.

ثانيا، ينبغي أن يتولى عقد هذا المؤتمر قادة تلك المجموعة من البلدان التي تمثل الأغلبية العالمية.

ما يقلقني هو أن الأزمة الحالية تتسبب في تعميق الانقسامات بين الجنوب العالمي والشمال العالمي. ولا شك أن آخر شيء مطلوب هو إيجاد انقسام عالمي آخر مثل ذلك الذي عانينا منه أثناء الحرب الباردة.

لهذا السبب ينبغي علينا أن نجعل من المؤتمر الدولي بشأن فلسطين جزءا من التجديد العاجل لالتزامنا بالتعددية الحقيقية.

وهذا الأمر سوف يتطلب إصلاحا مؤسسيا.

وهذا يقودني للاقتراح الثالث. وتنفيذ هذا الاقتراح سوف يستغرق وقتا أطول من المسار السريع لإقامة الدولة الفلسطينية. لكنني أود أن أكون واضحا بشأن الهدف الذي ينبغي أن يتحقق على المدى الطويل.

إن هيكل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هو من صُنع الحرب الباردة. فهو لا يعكس تعدد الأطراف بشكل صحيح. كما أن حق النقض أو الفيتو يعتبر جزءا من منطق اللعبة الصفرية، وينبغي إلغائه.

لنقارن بين مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية.

يمكن، في محكمة العدل الدولية، لمجموعة متنوعة من الخبراء القانونيين من مختلف الدول التوصل إلى حكم مدروس ومبني على الأدلة والبراهين. وإذا لم يتم اتخاذ الحكم بتوافق الآراء، يمكن للمعارضين تسجيل معارضتهم، لكن الحكم يظل قائما.

أما في مجلس الأمن، يصوت ممثلو الدول وفقا لحسابات سياسية، ويمتلك خمسة منهم القدرة على عرقلة صدور أي قرار حتى وإن كان هناك شبه إجماع عليه.

أي من هاتين المؤسستين يصلح لحل الصراعات؟ أو ما هي الهيئة الجديدة التي نتخيل أنها تناسب عالمنا المتعدد الأطراف على نحو أفضل؟

وأخيرا، استوقفتني مؤخرا بعض التعليقات من جادي آيزنكوت، وهو رئيس سابق لأركان قوات الدفاع الإسرائيلية ويشغل حاليا منصب وزير في حكومة الحرب الإسرائيلية.

يؤيد آيزنكوت وقف إطلاق النار، ويقول بأن وقف إطلاق النار ضروري لكي يتم إطلاق سراح الرهائن. كما أنه أعرب عن تأييده لحل الدولتين.

أعتقد أن آيزنكوت هو أكثر إخلاصا للمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى ولأمن إسرائيل من زملائه في الحكومة الحالية، التي ترفض بعناد وقف إطلاق النار وتعارض بشدة أي احتمال لقيام الدولة الفلسطينية.

ولا شك بأنني أختلف مع آيزنكوت حول أشياء كثيرة، وأنه ربما يعارض رؤيتي للأزمة الحالية. وفي الحقيقة أنا متأكد أنه يعارضها فعلا.

لكن في إسرائيل، يبدو أن أشخاصا مثله – أولئك الذين لديهم خبرة واسعة في المناصب العسكرية والأمنية الرفيعة- وممن يمتلكون القدرة على هذا النوع من التفكير- يمكنهم توجيه الدبلوماسية. هؤلاء هم الذين يبدو أنهم سيحافظون على الحوار في باريس وفي القاهرة أو في الدوحة.

لقد كان هناك شخص آخر مثل آيزنكوت وكان رئيسا سابقا للأركان في إسرائيل، وكانت لديه الشجاعة للتفكير بهذه الطريقة قبل ثلاثين عاما.

لكننا نعيش اليوم في عالم يرسمه أشخاص مثل الذي قتل إسحاق رابين.

لكنه ليس العالم الوحيد الممكن.

ما أتمنى أن أكون قد قدمته لكم اليوم هو مجرد أفكار لإصلاح بعض الضرر الذي حدث على مدى الثلاثين عاما الماضية بل أبعد من ذلك.

إن إصلاح هذا الضرر يتطلب التزاما متجددا وصادقا بالقطبية المتعددة. وهذا الأمر سوف ينطوي على تغيير في العقلية، لاسيما لدى أولئك الذين يعتقدون أنهم يستفيدون من القدرة على العمل بشكل أحادي وبدون الاكتراث بالقانون الدولي ولا بإرادة المجتمع الدولي.

لكن الأمر سيتطلب أكثر من ذلك. سوف يتطلب على أقل تقدير إصلاح المؤسسات القائمة على إدارة العلاقات الدولية، لكي تصبح مناسبة لمقاصد وأهداف اليوم وليس لحل مشاكل الأمس.

يمكننا بدء هذه العملية من الآن بالقيام بعمل جماعي عاجل لإقامة الدولة الفلسطينية. وليس البدء بعملية يكون فيها هذا الهدف بعيد المنال. كما ينبغي اتخاذ خطوات عملية لضمان تحقيق حق المصير للشعب الفلسطيني وإرادة المجتمع الدولي وبسرعة.

ولهذا السبب عندما التقيت بوزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون في الثلاثين والحادي والثلاثين من يناير الماضي، شعرت بالارتياح لأنه أصبح الآن أكثر انفتاحا للاعتراف بالدولة الفلسطينية عاجلا وليس آجلا. وقد طلبت منه أن يحول الأقوال إلى أفعال، والعمل على بناء الزخم لذلك على حد تعبيره.

إن إقامة الدولة الفلسطينية ضرورة وجودية. ومن الواضح تماما أنه لا يمكن للشعب الفلسطيني أن يأمل في البقاء إلا من خلال الحقوق التي تمنحها السيادة. فبدون دولة سيظل هذا الشعب مهددا دائما بالفقر والإبادة والموت.

ولا يمكن إلا من خلال إقامة الدولة الفلسطينية أن نأمل في تهميش الافتراء الطائفي والقضاء عليه من المنطقة في نهاية المطاف. وبالتالي، فإن الحل العادل للقضية الفلسطينية يُعتبر خطوة ضرورية أولى في عملية طويلة من التغيير الإيجابي لشعوب المنطقة.

إن هذه الرؤية تتمثل في أن الدولة الفلسطينية ستسمح لنا أن ننظر لأنفسنا، (وأن ينظر إلينا الآخرون) إلى جانب دولة يهودية، كشعوب لها هويات اجتماعية وثقافية متفاعلة وليس هويات محصورة فقط على أساس الانتماءات الدينية.

بمعنى آخر، يمكننا العودة إلى طريق النهضة العربية المفعم بالأمل، ويمكن أن تكون القدس أحد أوطانها.

شكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله

الوسوم: ,